رينيه ماغريت .. رسام اللا تطابق
سيلين بونيكو
ترجمة د. سندس فوزي فرمان
.."كنت أرى العالم كما لو انه ستار موضوع أمام عيني" . بهذه الجملة الصغيرة والبسيطة والتي تكاد تكون بلا قيمة قدم ماغريت مفتاح فنه. إن كان ما هو مرئي يغلف ويخفي حقائق الأشياء، فعلى الرسام أن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك المرئي. لكن ما الذي يختبئ خلف الستار؟ ما الذي يبحث الرسام عن الكشف عنه في لوحاته؟ عالم آخر نهرب إليه؟ لا أبدا فهذا المرئي لا يخفي شيء سوى ذاته. الواقع نفسه غامض ويحتال علينا كي يمحي سحره كما إنه صير نفسه عاديا كي يصبح غير ملحوظ.
تتألف لوحات ماغريت من الأشياء اليومية إلا إنها مرتبة بحسب منطقا شعريا ينتج عنه معنى. وللتفكير بالواقع يجب التأمل فيه بعيني فنان حيث يجب أن نعيد للواقع ذلك الامتلاء بالمعنى الذي يخفيه.
وكما إن ماغريت لا يرغب بالانقطاع مع الواقع فإنه لا يرغب أيضا بأن يأخذه على محمل الجد ويعتبره موضوعا فكريا . فماغريت فنان سريالي وهو يتبنى دوما نظرة مشرفة على الواقع وهو إن يقسو على ذلك الواقع ويعيد تركيبه فذلك من أجل أن يكشف بشكل أفضل عن خفايا الديكور الذي يختاره. عمل هذا الفنان البلجيكي مع مجموعة باريس التي كانت تضم ماكس أيرنست ودالي وبول إيلوار فقد كان منسجما تماما مع أفكار هذه المجموعة وكان يشعر معهم بأنه كسمكة في الماء.
ينتمي ماغريت إلى فناني الفكر الذين يعبرون عن الأفكار بالرسوم . فهو يعتقد إن الرسم أداة معرفة وليس هدفا بحد ذاته وإن الرسم ليس تصوير الأشياء الحقيقية إنما هو تمثيل لفكر الرسام إزاء ذلك الشيء . أما عن طريقته في الرسم فهي أكاديمية بحتة وليس فيها أي تحديث شكلي فلم يخترع تقنية جديدة في الرسم بل فضل الغوص في أعماق الأشياء وتمكن من تفكيك العلاقات بين تلك الأشياء في الواقع. فالرسام يقدم لنا المظلة والدمية والطير والتفاحة والغليون والبطيخة بدرجة عالية من الموضوعية كما لو إن الأمر يتعلق بدرس عن هذه الأشياء. وهكذا فإن لوحات ماغريت تصويرية جدا من جانب ، لأنها تعرض لنا الأشياء كما هي ، لكن من جانب آخر نجد إن نظرة الفنان تتدخل في تشكيل مجموع اللوحة ، وذلك من خلال الربط المزعج والمليء بالمعنى لعناصر عادية. ويشرح لنا ماغريت سبب ممارسته الرسم ؛ فالرسم يمتلك قدرة خارقة على التحرير وإمكانية على إعادة تشكيل الواقع . فكل شيء يصبح ممكنا على قماش اللوحة ، فهناك رجال يتساقطون كحبات المطر والصخور تتدفق من بين الجبال وتتحول أوراق الأشجار إلى طيور وتمثال ما مغطى بالدم... فبفضل هذا المنهج الثوري استطاع أن يرى العالم بشكل آخر غير ذلك الذي يراد فرضه عليه! .
تعتبر لوحة "الاستبصار" مثالا واضحا لهذه الأفكار حيث يبدو لنا الرسام وهو جالس ليرسم بيضة إلا إنه يرسم على اللوحة طيرا ناشرا جناحيه. ومثال آخر عن ذلك هو لوحة " التصوير الممنوع " والتي نرى فيها ظهر رجل واقف أمام المرآة إلا إن المرآة لا تعكس وجه الرجل بل ظهره. وعلى نفس المنوال فإن الفن لا يعكس الواقع.
كان ماغريت يهوى الفلسفة والأدب وقد كتب "في مدح الديالكتيك" و"إجازة هيغل" وهي مقالات مؤثرة في تأبين هيغل. كان صديقا لهيدغر وفوكو ، وكان يعرف تماما كل أعمال مالارميه وبودلير ولوتريامونت. لمن المؤكد إن ماغريت يؤثر الأحاجي والألغاز التي تترك المشاهد حائرا ، إلا إن الطابع المميز في لوحاته هو الحس المرهف والدعابة والغمزات المستمرة كل ذلك أنقذ فنه من الاتصاف بالنزعة الفكرية الغامضة والجافة. نعم بعض من لوحاته تجعلنا نبتسم ربما إلا إنها ليست سوى المرحلة الأولى من لعبة الاستفهام التي تعرضها اللوحة
Bookmarks